تمثل الحضارات العالمية طبقات متراكمة و نسيجا متشابكاً بحيث يأخذ كل منهما من الآخر و يعطيه في تفاعل لا مثيل له و في عملية يمكن إن نصفها بالتلقيح المتبادل بين الحضارات.
المنطقة العربية أو الدائرة الأكثر اتساعاً التي تسمى الشرق الأوسط تمثل مركز الحضارة العالمية منذ فجر التاريخ و لازالت، امتدت حضارتها و تفاعلت مع حضارات آسيا الجنوبية و آسيا الشرقية التي كانت و ما تزال تشكل كتلة حضارية صخرية متميزة.
و إذا كان عالمنا المعاصر يعيش عصر الحقبة الأمريكية بكل جوانبه فإن ثمة جانب آخر تفتقر إليه هذه الحضارة و المتمثل في قيم العدالة و الحق فرغم رفع هذه الحضارات لمثل هذه الشعارات في الحرية و المساواة و حقوق الإنسان إلا أن الممارسة العملية تظهر انتقائية شديدة من حيث الشكل و ازدواجية واضحة من حيث التطبيق.
و في نفس الوقت شهدت منطقة الشرق الأوسط تراجعا حضاريا مثيرا للدهشة و الاستغراب. إذ لم تستطع أن تطور نموذجا حضاريا يعكس قيم و ثقافة عصور الحضارة السابقة، كما أظهرت تخلفاً علمياً و تكنولوجياً فضلا عن التخلف السياسي و الاجتماعي.
و من هنا وقع ما يشبه التصادم بين حضارة الشرق و بين الحضارة الأمريكية على وجه الخصوص و ثار التساؤل عن فكرة صدام الحضارات و فكرة "حوار الحضارات" التي سعى سياسيون و مفكرون من الشرق الأوسط لطرحها كمفهوم بديل لصدام الحضارات.
و في تصوري إن كلا من مفهوم الصدام و مفهوم الحوار يتميزان بسطحية التحليل و يحتاجان لمزيد من التعمق، و مما زاد الفجوة بين الشرق و الغرب اعتبار الإسلام العدو الجديد بعد سقوط الشيوعية و أيضا إحداث 11 سبتمبر 2001 في الولايات المتحدة مما أدى على ما يشبه الحملة الصليبية بقيادة الولايات المتحدة ضد الدول الإسلامية بوجه خاص.
و للأسف فإن السياسيين و المفكرين في الدول الإسلامية و العربية لم يقدموا لنا بديلاً حقيقيا باتخاذ موقف رادع ضد الجماعات المتطرفة التي تسيء للإسلام و لم يقدموا لنا إنجازا علميا أو تجربة تنمية اقتصادية يمكن الاعتداد بها في مواجهة اتهامات الغرب بالتخلف الإسلامي سياسيا و اقتصاديا وثقافيا و اجتماعيا.
و هكذا ففي اللحظة التي عجزنا فيها عن تقديم النموذج و المثل و القدوة تركنا الحبل على الغارب للجماعات الهامشية و لذلك وقعت الإساءة و تبعاتها علينا جميعاً و أصبحنا مطالبين بدفع الثمن في إطار صراع الحضارات.
لذلك لابد من إعادة النظر في منهج عملنا في إطار مشروع حضاري يدعو لتجنيد أفكارنا و ثقافتنا و دور النخب السياسية و الثقافية و العسكرية في بلورة رد فعل على التحدي الحضاري الذي نواجهه على النحو ما فعلت اليابان و الاتحاد السوفيتي.
و ينبغي أن نقول بأن ردة الفعل الياباني أثبتت صلابة و مقدرة على الاستمرار زهاء قرن و نصف من الزمان، في حين أن رد الفعل الروسي أو الصيني ما يزالان قيد التجربة لقصر الفترة الزمنية و من ثم يصعب الاعتداد بهما بصفة قاطعة.
أضف إلى ذلك أهمية الدخول في حوار حضاري مع القوى الرئيسية في العالم القرن الحادي و العشرين و نخص بالذكر ثلاث قوى هي الولايات المتحدة، الصين وروسيا الاتحادية.
و يرجع اختيارنا لهذه القوى إلى كونها القوى المتوقع لها السيطرة و الغلبة طوال القرن الحادي و العشرين، فمن الواضح أن الولايات المتحدة في حالة هيمنة على مقدرات العالم و على أمد بعيد أما الصين فإنها تمثل القوة الصاعدة على المسرح السياسي و الاقتصادي الدولي و تسير في هذا الصدد بخطى وئيدة و لكنها ثابتة وراسخة.
و لا يمكن إن يتحقق دور حضاري عربي لمنطقة الشرق الأوسط إذا تجاهلنا وجود قوة أخرى في المنطقة العربية بغض النظر عن اعتقادنا بمشروعية وجودها إلا أنها فرضت نفسها كأمر واقع و قبلنا هذا الوجود بحكم الضرورة و من منطلق مقتضيات السياسية الدولية و المفهوم السياسي الأصيل وهو إن السياسية هي فن الممكن و فن اختيار الأفضل من بين البدائل فضلاً على أن الواقع السياسي و عبرة التاريخ تظهر أن خرائط السياسة للكرة الأرضية قد تغيرت أكثر من مرة عبر مسيرة التاريخ الإنساني.
و يأتي سابقا على عملية الحوار مع العالم الخارجي بقواه المختلفة عملية الحوار الداخلي فيما بيننا كعرب لنعرف ما نريد و كيف يمكن تحقيق أهدافنا و نرسم خطة مستقبلية واضحة لتحقيق ذلك وفي هذا الإطار نجد إن من الضروري إن تتميز هذه الخطة بخصائص ثلاث:
الأولى= الواقعية في تحديد الأهداف و الوسائل.
الثانية= التدرج سعيا نحو تحقيق هذه الأهداف وفقاً لأولويات واضحة.
الثالثة= الأخذ في الحسبان، و احترام الخصائص الإقليمية في المنطقة العربية سواء كانت هذه الخصائص ترتبط بترتيب للأولويات الخارجية أو الداخلية.
No comments:
Post a Comment